يا رب تكون ماتت مستورة



كان منظره مزرياً أكثر من أي يوم مضى ، الناس يمرون ذهاباً وإياباً دون أن يكترثوا له ، ربما إعتياداً منهم على رؤيته ، أو رؤية أشباهه من المشردين رثي الثياب ، طويلي الشعر أشعثه ، الذين يتكومون في أي ركن يختارونه بشوارعنا ومياديينا ، والنادر من الفضوليين هم فقط من يتناقلون روايات عن تلك الفئة ، والتي غالباً ما تكون أغلبها كما الشائعات المروجة ، فسمعنا عمن خانتهم زوجاتهم أو من خسر كل أمواله بضربة واحدة ، أو من إنفضت عنه عزوته بعد خسارتهم لمناصبهم ، حكايات وحكايات يستخلص العقل الرزين من أغلبها إنها مجرد شائعات ، لكن حالة "هشام" مختلفة فأنا أعرفه جيداً ، وما سأقوله عنه اليوم ليس بشائعة أو كذبة ورواية أقصها عليكم ، فهي حقيقة تحققت من أغلب أركانها كما يتحرى الصحفي عن قصة قبل نشرها ، فهشام كان جاراً لي ، عرفته من فترة الثانوية العامة ، التي فشل في إجتيازها لكنه نجح بكده وإجتهاده في الإلتحاق بعمل بشركة أدوية عالمية إعتماداً على إجادته للحاسب الآلي ، والذي كان وقتها حديث التداول لا يجيد التعامل معه سوى صفوة المجتمع ، وليس منتشر كما الآن ، وما ساعده على ذلك ظروف عائلته المادية المتيسرة ، ونجح هشام في إكتساب خبرات عالية بمجال الأدوية ، حتى أصبح موظفاً بقسم المبيعات بها فمندوباً يتساوى في الخبرات والراتب مع خريجي الصيدلة وقتها بأواخر تسعينات القرن الماضي ، ليس هذا فقط بل أرسل بمنحة تدريبية لفرع الشركة بألمانيا عاد من هناك مسلحاً بشهادة إتمام دورة على ما أتذكر تتعلق ببيع الأدوية بالشرق الأوسط ، وهي شهادة من أكبر الجامعات الألمانية ، وهو ما جعل شهاداتنا التي أخذناها في سنوات طوال تتوارى خجلاً جانب شهادته ، المسلحة بالخبرة الميدانية وفي الوقت الذي كنا نبدأ فيه حياتنا العملية ، بل والبعض من أبناء جيلنا يتعطل لأداء الخدمة العسكرية ، كان "هشام" كمن ركب صاروخاً أصبح مطلوباً للعمل بأغلب دول الخليج وبكبرى الشركات بها وبأرفع المناصب ، حتى أن زملاءنا خريجي الصيدلة أصبحوا يوسطون -ساقط ثانوية عامة- ليبحث لهم عن فرصة للدخول بشركته أو أي شركة بالمجال ، وهو أمراً دعاني للتأمل كثيراً في مسيرة نجاح هذا الشاب ، وفي الطريق غير التقليدي الذي سلكه وأصبح "هشام محط إعجابي بشدة ، كما لاحظت نظرات الغيرة والحسد التي تقطر من عيون وألسنة أغلب شباب الشارع ، فمنهم من قلص قصة كفاحه لمجرد حظ ، أو أن الشهادات التي تؤهله لعمله غير ذات قيمة وكلها مدفوعة الأجر ، وعندما كنت ادخل في سجال مع أحد من طارحي وجهة النظر تلك ، حول أن الشركات الكبرى لا تنظر للشهادات فقط ، بل تنظر أيضاً للخبرات والمهارات وإنه لن يترقى ويعلو لمجرد حمله شهادة فقط ، ما نالني سوى السباب واللعن ، وهنا أدركت أن النقاش لا سبيل له ، فالحقد قد أعمى قلوبهم .
وحتى لا نتوه نعود لقصتنا ، حيث سافر " هشام" للإلتحاق بالعمل بكبرى شركات الأدوية بالشرق الأوسط بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة ، بمطلع القرن الحالي في الفترة التي بدأت فيها دولة الإمارات النهوض السريع وجذب أنظار العالم ، وحسب شرح "هشام" لي بوقت لاحق بدأ بتنفيذ ما تعلمه سريعاً لتثبيت نفسه ، حيث بنى قاعدة بيانات بوقت قياسي ، ثم قاعدة علاقات سريعة بالمستهدفين من العملاء كشركات التوزيع والدكاترة والصيادلة ، وفي أقل من عام زادت ارباح الشركة بأكثر من الضعف ، وزاد معها راتبه الذي كان في الأصل خرافي من عشرة آلاف درهم شهرياً ، لثلاثين ألف درهم ، ووصل في غضون عشر سنوات لخمسين ألف درهم ، وهو ما كان يظهر على أسرته بوضوح فقد كانوا يشترون كل منزل أو بيت يباع بالمنطقة ، كما إبتاعوا سيارة جديدة ، وأصبح الحي كله يتودد لعم جميل أبو هشام ووالدته الست أم هشام ، ثم كاد أن يركع أغلب رجال الحي تحت قدمي أم هشام طلباً لودها ، بعد أن إنتقل عمل جميل لجنة الخلد بإذن الله ، وهي الفترة الوحيدة التي رأينا فيها "هشام" لحضور جنازة والده ، مواساة والدته وإلقاء نظرة على أملاكه ، أما أصدقائه وجيرانه لم أشعر برغبة صادقة منه في مجالستهم ، ربما أن الأموال غيرته ، أو أن الغربة قست على قلبه ، ومن سخرية القدر أن أغلب فتيات الحارة اللاتي لم يحالفهن الحظ بالزواج حاولن بكل السبل لفت إنتباه "هشام" ، بصورة ذكرتني بمسلسل عايزة أتجوز ، إلا إنه لم يبدي إهتماماً وربما وجد الظرف غير مناسب للزواج خاصةً وإنه قد جاء لتلقي العزاء ، خاصةً وإنه أغلق الباب أمام والدته رافضاَ مبدأ زواجها مرةً ثانية ، مؤكداً أم كل من تقدموا لها طمعانين في أمواله .
إلى هنا وكانت الأمور تسير بشكل طبيعي ولا أظن إنني إذا كنت أخبرت أحداً من أهل المنطقة ، أن "هشام " سيغدو في ظرف عامين مجذوباً يتلقى الإحسان من أهالي المنطقة تارةً ، والمضايقات تارة ، ونظرات الشماتة من الحاقدين ، ونظرات الإشمئزاز ممن كانوا يجرون وراء تراب قدميه تارة أخرى ، لكان أهلي المنطقة قد إستدعوا لي مستشفى أمراض المجانين رسمياً وفوراُ فما السبب في التدهور الذي أصاب قصة ذلك الصعود الرهيب .
الحكاية تبدأ بإنطلاق ثورة يناير وما تبعها من إنهيار أمني أصاب البلاد ، في ذلك الوقت كان "هشام" قد أرسل كل مدخراته لوالدته لشراء شقة بمبلغ مليون جنيه بمنطقة "زيزينا" بالأسكندرية ، إستغلالاً لحالة الإنهيار التي أصابت العقارات بذلك الوقت ، خوفاً من المجهول الذي كان يكتنف البلاد وقتها ن حيث أن قيمة الشقة الحقيقة أكثر من مليون ونصف المليون جنيه ، وكان صاحبها على ما يبدو يريد أن يفر قبل أن تفتك أيادي الثورة به ، على العموم وتحت إصرار من المالك على تقاضي نظير البيع كاش ، إضطرت الأم إلى بيع بعض الأملاك التي تمتلكها فالصفقة كانت مغرية لأبعد الحدود ، وفي اليوم المقرر لإتمام الصفقة أخذت الأم جميع الأموال السائلة بالمنزل ، وبخطوة حمقاء في أي وقت وأي مكان -ناهيك عن إنها بفترة إنهيار أمني- ذهبت للبنك بكل تلك الأموال وسحبت كل السيولة به لتكمل مبلغ المليون جنيه المطلوب لإتمام الصفقة ، إلا أن الصفقة لم تتم أبداً حي لم تصل الأم في الموعد المحدد للمالك لإتمام عملية البيع .
جن جنون "هاشم" حصل على أجازة وكانت الشركة رحيمة به فصرفت له شهر إعانة وصرفت له جميع مستحقاته ومنحته الأجازة ، وهرع "هشام" إلى الأسكندرية للبحث عن والدته ، وسأل عليها القاصي والداني ، دفع أموالاً طائلة بأقسام البوليس للتحري عن والدته وكلما مر الوقت وإنخفض أمل العثور عليها ، خاصةً مع إنتشار الجرائم البشعة وقتها ، إزاداد هياج "هشام" وتحركاته ، قام ببيع كل ما يملك ولف بنفسه على جميع المستشفيات وجميع مشارح مصر باحثاً عن أمه وعن جثتها ، ربما كان هشام قاموساً لبشاعة الجرائم التي أرتكبت وقتها ، وكم من مرة حكى لي عن جرائم رأي جثثها بنفسه ، على العموم بعد ثلاثة أشهر من البحث المضني ، تقلصت آمال هشام وأصبح رده على أي سؤال من المعارف والقارب والجيران عن أخبار والدته " يا رب تكون ماتت مستورة".
بدأ "هشام" رحلة جديدة من الضياع ، فبعد تأخره في العودة لعمله ، أرسلت له الشركة الإماراتية جواب شكر عن الفترة التي قضاها بها ، حاول "هشام" أن يلملم شتات حياته فحاول أن يبحث عن عمل بمصر ، فكانت الضربة القاصمة "هشام" لا يملك شهادة إتمام الثانوية العامة ، حاول إبراز الشهادات التي يمتلكها ، لكن إجادة الحاسب الآلي أصبح أمر طبيعي ، والشهادات الأجنبيه أصبحت منتشرة ومعروف عنها إنها شهادات مدفوعة الأجر ولا تمثل خبرة أو علم لصاحبها ، وبدأ هشام ببيع البقية الباقية من ممتلكاته ، وهنا جاءت النهاية تلقفته أيدي شلة فاسدة من مدمني المخدرات ، وجروه لجلساتهم المميتة حتى سحبوا منه آخر قرش يمتلكه ثم أعرضوا عنه ، حاولت أن أساعده فألحقته للعمل بشركة لدي بمديرها علاقة عمل سابقة ، وقبله كمسئول للبيع بها ، إلا أن الإدمان قد تملك جسده وأخذ ينهش به في كل لحظة تمر ، والراحة الزائفة التي يشعر بها مع كل حقنة يتعاطاها أصبح جسده وعقله لا يستغنى عنها ، إختلس "هشام" مرة ومرة حتى إنكشف أمره ، فطرد من الشركة كأقل إجراء يمكن إتخاذه في مثل هذه المواقف ، شاعت حكايته وأعرض عنه الجميع ، حتى أنا في لحظة غضب قررت إنني فعلت كل ما بوسعي معه ولم ينوبني سوى التأنيب من صديقي الذي توسطت له لديه ، فإنصرفت عنه وأغلقت هاتفي في وجهه عندما إتصل بي ليطلب مني سلفة ، ليبدأ "هشام" في الهيم على وجهه بشوارع المنطقة ، ويتحول لمجذوب يستجدي الإحسان  ومشيع بنظرات الشفقة والإشمئزاز ، صارخاً بين الحين والآخر "يارب تكون ماتت مستورة".

هناك تعليق واحد:

  1. ممكن نحاول نلم تبرعات على الاقل ثمن علاجه فى مصحة الادمان

    ردحذف

أضف الموضوع لحسابك